مرحبا..
دائما ما أجد بذهني صورة لرجل يجلس بجوار نافذته. النافذة نصفها مفتوح والآخر الجزء الأعلى منه منكسر. يجلس ناظرًا للفراغ. متأملًا ربما، أو لعله منتظرا..
امرأة أو مَلَك أو ربما غيمة. الأضواء توحي إما أن الوقت شروق أو غروب. أميل إلى كونه غروب. فمجلسه للتأمل والسكون لا استقبال ليوم آخر.
الرجل يرتدي قبعة، ولا يستند بظهره على الكرسي بل يميل إلى الأمام مشبكًا يديه أمام بطنه.
لا أدري هذه الصورة للوحة ما رأيتها أم أنها مجرد أمنية أخرى؟
أمنية معلقة.
أفضل أن يكون مسكنه من الخشب، ومستقبلا غابة ما، ولديه حيوانات للعمل والحرث وتهدئة النفس. سيذهب إلى البلدة القريبة كل أسبوع. يشتري أوراقا وأقلاما كل مرة. وعلى مات متتالية يجلب بندقية صيد، ثم ساعة حائط كبيرة لها بندول، يكتشف انه معطل عند العودة، فيجلب في المرة القادمة ترسًا خاصًا للإصلاحه، فيفسد الساعة بأكملها، ثم يشتري ساعة رملية.
يسرق نظرة على امرأة في المرة الرابعة، ويختبئ من بريق الأعين المسلط عليه، ويحاول كثيرًا ألا يرى نفسه في زجاج أعينهم.
مرة أخرى يشتري قميصًا، ثم بنطالا، وكلما احتاج شيئًا من ملبسه بدله. ليس مسرفًا، فهو يجلب مايريد فقط.
إلا القبعة! لا يشتري لها بديلًا..
يسير في مرة لاحقة بعد غياب شهر، فيجد بعض التغير بالبلدة. محلات جديدة وناس أكثر. ثمة محل (للأنتيكات).. يجد حقيبة جلدية قديمة، يتذكر مشهدا من فيلم وجد البطل بداخل حقيبة في باريس قصة نسبها لنفسه فنجحت واشتهر وعُقدت له الندوات والمؤتمرات.. يشتريها.
يجد عودًا به وتر ضعيف. مكتوب عليه ملحوظة: إن كنت تريد العزف لفريد فسينقطع معك من أول نقرة. وإن كان العزف لعبد الوهاب فربما يظل معك أكثر بنقرة أو ثلاث.
لكن إياك ان تتراجع، فصاحبه الذي مات جلس مع الرجلين وعزف في حضورهما، وربما هما أيضًا عزفا عليه! يأخذه أيضًا.
يجد المراة التي سرق نظرة عليها واقفة تتأمل شيئًا وراء لوح زجاج. يقترب ببطء.
إنها تتأمل لوحة. هيئتها كما تخيل حينما كان يريد في الأصل أن يأتيه وحي من السماء او إشارة ما. أتت هي بدلًا. حدثته نفسه: لاعجب أن بعضهم جعل امراة إلهة.
يبعد حتى تنتهي المراة وتمضي، ثم يشتري اللوحة.
يعود، ويعلق اللوحة، ويظل ينظر إليها حتى تنتهي ساعته الرملية من دورتها، ثم يقوم للكتابة.
يكتب كثيرًا.. لا يتوقف أبدًا.. لا شيء يمكن أن يعطله!
لا أخبار القتلى ولا الأوبئة، ولا الحروب.. لا الراحلين ولا العائدين، ولا الأمل ولا اليأس!
يظل يكتب فتنتهي الساعة من دورة أخرى، فيقلبها، ويكتب، ثم تنتهي ويقلبها، وتظل هذه الرحلة مستمرة لأنه يخاف من الموت، ويخاف أن ياتيه فجاة ويريد أن ينتهي من كتابة كل شيء داخله قبل أن يموت.
كانت لديه بعض المشاكل.. إحداها أنه كلما نزل البلدة أو تأمل من نافذته أو كتب تتزايد الأفكار والصور داخله، فيريد أكثر وأكثر من الوقت والأوراق.. ومنها أيضًا أنه لازال يريد العزف على العود ويبرع فيها قبل الرحيل.
لكن أشد هذه المشاكل كانت أنه لم يهرب بعد، ولم يقبض على ساعته الرملية، ولا وقته الخاص، لا.. ولم يعرف لما فجأة يتوقف عن الكلام ويصمت طويلًا، ثم يمضي.
تعليقات
إرسال تعليق