"الليل الليل، ودقة الساعات تصحي الليل"
أدندن بالصفير مقلدا اللحن لمقطع من فات الميعاد، ثم أدير القائمة بشكل عشوائي فيأتي المقطع نفسه الذي أقلد من بين مقاطع عديدة.
ربما ذلك فيما قبل كان ليكون مطلع نداء وحداء، أو ليلة نكتب فيها ألف كلمة وكلمة ثم لانكون قد قلنا مما يجول بصدورنا إلا كلمة.. فمن للألف يجلبها؟!
هل تجلبها قصيدتكِ المحبوسة بصدرك وبصندوق بريدي؟ أم تأوهات كل الأهل بين القصف والحتف؟
تقول السيدة الآن: وهات لي قلب، لا داب ولاحب، ولا انجرح ولا شاف حرمان.
كان لهذا المعنى أثر فيما مضى، ولا أعني منذ سنوات عديدة او أشهر مديدة. بل لعله الأمس أو قبل الأمس بعام أو شهيق إثر قافية نسيب:
فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا ** ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ
أو زفير إثر قول الشاعر:
أين الأحبة يا أبي أو ما دروا ** أنا إلى ساح الفناء نقاد
كل الكلمات كان لها معنى، أو لنقل حالة جاهزة من التأثر. فقط هناك مايشبه مستقبلات الكلام فتوجه كل كلمة إلى مستودعها من المشاعر، فما الذي جرى؟!
لا، لم آت هنا الآن لكي أشكي هما، أو أنشج. إنما لأحاول التشريح قدرالإمكان عما كان، وعما هو الآن فلعلي أقف على ماهو بقابل الأيام.
إن الوقوف بدقة وبصيرة على ماصدر من الإنسان ومازال يصدر منه هو مفتاح للنضج والراحة بهذه الدنيا. فليس ثمة أنبياء بعد - إلا واحدا أو أكثر بقليل يشتهون النبوة بلا داع- وليس هناك من هو دائما على صواب.
أما ما أتيت من أجله الآن، قد تأخر قليلا، فكان من المفترض أن آتي هنا منذ ليلتين، لكن ما أبطئ الإنسان، وما أقبح الدعة والتسويف..!
كانت الأجواء بالجمعة الماضية بديعة من حيث الطقس، ولما أكرمنا الله بزيارة بيته وبحضور المطر أثناء السعي، ثم أثناء التجول بشوارع مكة، فالمكث بزاوية أسفل جبالها جعل اليوم جميلا. ولحظات الجمال يا أصدقاء، هي برأيي تلك اللحظة التي نرغب أن يتوقف الزمان عندها. لا أن يتقدم ولا يعود. لنقف هنا قليلا.
في الحقيقة هذه الحال عشتها مرات قليلة، وفي كل مرة لم أستطع القبض على هذه اللحظة المشتهاة. إن للجمال أثر بالغ بالنفس، وليس هناك في الدنيا ما هو أهم للمرء من أن يفرغ جهده ما استطاع للقبض على لحظة مماثلة. اللحظة بين الطواف والسعي مثلا يجب أن تتوقف. لنطيل المسافة من الكعبة إلى جبل الصفا، ولنجعلها أطول ما يكون، لنجعل الشوق إلى ماهو قادم ينافس الراحة مما للتو انتهى فعله وبقي أثره!!
منها أيضًا ذلك الممر للوصول إلى حيث يرقد شمس الدنيا، وإلقاء السلام عليه وعلى صاحبيه، ثم ما أن تخرج حتى تجد نفسك معاودا مرة أخرى لهذه الدائرة اللامتناهية وكل خشيتك أن توقفك اجراءات الإغلاق فيتوقف ذلك الوصل بين سادة قريش والدنيا معك.
للجمال لحظات أخرى كثيرة، وليس بالطبع ذكرها يعني تساويها مع ما قلت. وإنما شاءت حكمة الله عزل وجل الجميل الذي يحب الجمال أن يودع بعضا من هذا السر في الكائنات والناس والأحداث حتى لا يصبح الواحد من بني آدم حبيس حالة واحدة، وإنما متقلبا في نعمة هنا، وأخرى هنالك.
ألمس الجمال في قصيدة، وفي قذيفة الياسين 105 تطيح ببرج الميركافا، وبعينيكِ تفضحا السر دون قصد منك، وربما في وتر ينتقل من مقام إلى آخر. وفي كتابات غاليانو هذه الأيام، وفي تلك الملاطفات والمبارزات الخفيفة الماتعة بين الشيخ الغزالي والشيخ الألباني في التعليقات على كتاب فقه السيرة.
وهناك أيضا جمال كامن في التجول بمكتبة، وآخر في أولئك المارين بين صفوفها يلامسون الكتب بهدوء وخفة ويصرون على التعامل معها بطريقة تجعل من الكلام على اللافتة المعلقة: (أعد البضائع لأماكنها) كلام لا وزن له. دائما تحاصرني صورة لامرأة في مكتبة بالخامسة مساء تعيد كتابا تصفحته إلى موضعه كأن المساء يتهادى، والنجمة تبرز شيئا فشيئا. ومن الجمال أيضا تلك اللحظة لما مضت السنون وأهلها، ودارت الأيام دورتها، ثم وجدت برواية كافكا على الشاطئ وصفا للمكتبة في الخامسة مساء وأذكر أن هناك امرأة كانت. حتى أني اعتقدت أن تقلب الزمان في روايته هذه حدث وأن زار مكتبة النادي الصيفي بقرية على ضفاف فرع النيل بدمياط.
منه ماتقوله الآن هذه السيدة التي توفر لها مالم يتوفر لغيرها:
وليكن ليلنا .. ليلنا .. ليلنا.. طويلا طويلا..
فكثير اللقاء كان، قليلا..!
سوف تلهو بنا الحياة، وتسخر
فتعال، تعال.. أحبك الآن الآن أكثر..!
تعليقات
إرسال تعليق