مساء الخير ..
أتعرفون ما الذي فاتني وأنا صغير؟
كثيرُ قد فاتني والله يا أصدقاء. فاتني ان أتعلم ركوب الدراجات، وأن أقول لا، وأن أتشاجر، وأن أدق أجراس بيوت الجيران وأجري، وأن ألعب حتى أصل آخر الشارع من جهة الجنوب، تحديدًا من الصيدلية حتى الزاوية، فيفرقنا أصحاب البيوت هناك بالسب حينًا والتوعد حينًا آخر، قائلين: العب عند بيتك. أبناء الجيران كانوا يلعبون. أن لم أفعل. لا أعرف لما. ربما لأنني حرصتُ على أن يسبني أحدهم، فأصير ولدًا غير صالح جلب لأهله السب. وربما لأنني كنت أخاف. أخاف أن أجري فأقع، أن تتسخ ملابسي، أو أن أعرق فأضطر للإستحمام بالماء البارد، أو ربما وهذا ظني أن أعتاد الفرح والمرح !
فاتني أن أصاحب احدًا، وأن أتخذ من بلدتي صديقًا صدوقًا ملازمًا لي منذ الصغر. ليس ثمة أحد. لدي الكثير من الأصدقاء لكن هذا الذي كظلك ليس هنا. أتذكر في صغري أني قرأت قصة أبو ذر. أعجبتني. عاش وحيدًا ومات وحيدًا. لما كبرت قليلًا اتخذتُ الكثير والكثير من الأصدقاء. لكن فاتني ذلك في الصغر.
أيضًا فاتني أن أكون جريئًا مثل أخي الأكبر، وأتحدث إلى الفتيات بثقة. وفاتني أن أكون مثل الأوسط فأتحدث إليهن بخجل ! كنت دائمًا أجلس في المقعد الثالث. جرت العادة أن المقيمين بهذا المقعد لايعني بهم المدرسين في المهام الفصلية. لايقفون على السبورة في الإنتظار، ولا يساعدون في توزيع وجمع أوراق الإمتحانات. لكني مرة جاوبتُ على سؤال صعب لم يقدر عليه أوائل الفصل. كانت مادة الرياضيات. بسرعة شديدة جاوبت على مسألة في درس الرباعي الدائري. أعجب بي مدرسي جدًا. قدمني، للمقعد الأول. ثم جعلني أوزع الأوراق على صف الطالبات ! لا أعلم ماذا فعلتُ حينما مررت للمرة الأولى عليها ! ولا ماذا قلت. لكن المدرس لم يجعلني أفعلها ثانية. وزميل المقعد قال لي: لقد رأف بك. والكل لمحك. لا أعلم ماحل بي. لم أكن كأخي الأكبر ولا الأوسط. لذا بعد حصتين عدت لمقعدي السابق.
هكذا، كتمان آخر، وفقد آخر. قد سنحت لي الفرص بعد ذلك كثيرًا. لكن أنّى لي فعل شيء؟!
ولقد فاتني فيما فاتني أن أحدد ما أحب، وما أرغب أن أكون. لا أعلم لماذا يجبروننا ونحن صغار أن نختار مانريد ان نكونه في المستقبل !!
حسنٌ تريدون ما أريد، إليكم:
طبيب كعمي. مات عمي قبل مزاولة المهنة. طيب، ضابط شرطة، يقبض على اللصوص، ويخيف الأشرار. لا لا .. ضابط جيش، يتقدم الصفوف، ويبتكر طرقًا لم تحدث من قبل. طب ما رأيكم في لاعب الكرة؟! سأصير مشهورًا وغنيًا وسأغدق الأموال على أهلي أولًا ثم فقراء قريتي، ثم مشروع خيري بالبلدة، ثم يطلقون إسمي على أي شيء فيها. لم يسعفني الحظ لأن أصير مطربًا نظرًا لوضاعة صوتي في الغناء، لكن هذا لم يمنعني يومًا من الغناء بمفردي، ولاحتى منعني من غناء: وديلي سلامي يارايح للحرم أثناء توصيل أبواي لأداء العمرة، ولا من غناء أغنية لفاطمة عيد في عرس جارة لنا. خلاص خلاص .. أريد أن أكون مهندسًا. بل مدرسًا. بل موسيقيًا، أو رسامًا. وكل مايمكنكم تخيله، إلا انني لم أريد يومًا أن أكون عالمًا أو رجل دين. وفي الحقيقة لازلت لا أعرف ما أريده، بل لم أعد أرغب.
وفاتني أن أقرأ منذ الإبتدائية أو الإعدادية، وفاتني ان أسمع أم كلثوم قبل التاسعة عشر.
لقد فاتني أن أكون صبيًا.
*نشرت أول مرة في 18 سبتمبر 2016*
تعليقات
إرسال تعليق