التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حكايات ما بعد النوم - أحمد الديب.




 - بابا، أليست الحكايات قبل النوم؟

هكذا قالت لي إيثار حينما أخبرتها أن تحضر لي الكتاب لأكمل مطالعته. وهكذا أيضا سألني حمزة حينما أخبرته عن اسم الكتاب.
- بابا، كيف تكون الحكاية بعد النوم؟
الأب هو البطل الوحيد في عيني أولاده. لذا يجب أن أفهم جيدا العنوان، وإلى حين الانتهاء منه أرجأت الرد.
***********
تبدأ حكايتي أنا مع هذا الكتاب منذ سنوات. ربما من بداية صدوره. ولأسباب غير معروف معظمها لم أقرأه. السبب الوحيد المعروف كان أن تجاربي مع القصص القصيرة غير جيدة.
في العادة أحب الحكاية الطويلة، أحب العيش مع الشخصية لفترة طويلة، نتصاحب ونتبادل التجارب والآراء. والنص القصير مغامرة يخوضها الكاتب لأنه عليه حينئذ أن يتقن لعبة الكتابة بحق، لأن المساحة المتاحة لفكرته صغيرة، والألفاظ التي سيستخدمها قليلة وإن كثرت!
النص القصير هو السحر ذاته!
ألم يقل أعظم من تحدث يومًا: إن من البيان لسحرا؟ وكان قوله ذلك على جملة قليلة الكلام كثيفة المعاني؟!
التالي في حكايتي أنا مع الكتاب هو متابعة الكاتب، وإعجابي بما يقدمه من محتوى. كان الغرض متابعة كاتب شاب أثنى على ماكتبه بعض الأصدقاء ممن أثق في ذائقتهم، وكتب خيرا عن نصوصه اثنان من الكتاب المميزين. حسنا؛ هذا إضافة من المؤكد! وبمرور الوقت نسيت الكتاب! وكلما مر أمامي اسم الكاتب أو قائمة المؤجلات أقول: سأقرأه إن شاء الله.
(في ليلة طلب مني حمزة شيئًا ما، وقبل أن أرد قال: لا تقل إن شاء الله لأنك لن تفعله. وعدته بأني سأفعل وأفهمته معنى المشيئة بقدر ما اسطتعت. وفي اليوم التالي كنتُ في مكتبة عين ووجدت الكتاب. نسختان منه. قلت في سري: سأقرأه قريبا إن شاء الله، فحضر صوت حمزة، فقمت واشتريتُ الكتاب، وقررت أن أقرأه فورا، وقد كان).
***********
ما سر العنوان؟
قلت لنفسي: ربما ذلك عنوان واحدة من القصص داخل الكتاب، أو حتى مجموعة من القصص تحت عنوان واحد واختارها الكاتب كبعض الأعمال. تذكرت حين السؤال المجموعة القصصية الجميلة: فن التخلي للكاتب عبد الله الناصر. ولعل من اللطيف أن سبب مطالعتي لها كان كاتب حكاياتنا. فاستبشرت الخير، وقلت إن قارئًا يتذوق عملا كفن التخلي لابد أن يكون كاتبا جيدا، ثم كانت البداية.
ماهي الأحلام؟
لا يمكنني أن أقف على قصة دون أخرى. لا يمكنني أن أقول أثر هذه القصة أعمق من أختها!
كلهن جميلات!
هذا التحليق للأعلى، والغوص عميقا، والدخول في عوالم ليست من صنعنا نحن البشر أمور لاتحدث كثيرا.
مطالعة قصة منها – أي قصة – يشبه تذوق وجبة واحدة فيها كل المذاقات تتحارب مع بعضها في فمك. اللاذع منها والحلو بكل درجاتهما.
لم أكن أعتقد بأني من الممكن أن أعجب بقصة عن سنجاب أو شجرة مثلا تسمى (ساكورا). لكني اندمجت معها لأسمي هذا الكتاب: الجمال نفسه.
أظن أننا أمام كاتب حالم. نعم. هو ذاك!
حالم، لا يعيش معنا في عوالمنا الجامدة تلك. إنه يعيش في أرض الأحلام، ثم يأتي بعد النوم ويقص علينا كل الحكايا. كتب بعضها هنا في مجموعته وأنا على يقين أنه يمتلك ما هو أكثر منها في مكان آخر.
هذا هو سبب التسمية. هكذا أظن، وأعتقد، ولن أحاول معرفة السبب من الكاتب أو تتبع الأخبار عنه. أصلا يجب أن يترك الكاتب نصه ليتفاعل مع القراء ويتفاعلون معه، فتنبت مع كل قراءة جديدة له حبة أخرى ثم تكبر وتكبر.
حتى نحن – أعني البشر- ممن كتب عنهم الحكاء كانوا من أصحاب الحضور الهادئ الذي يترك لك أثرا كابتسامة امرأة في نهاية حلم جميل.
- بعض ملاحظات:
1- من الجميل أن هذه القصص كتبت في فترة كانت من أكثر الفترات زخما بحياتي وربما بحياة جيلي بأكمله، فالفترة من (2008-2012/2013) بها العديد والعديد مما يجعلنا نهتم بما كتب خلالها خاصة ممن هم في مثل عمرنا.
2- شعرت بحضور الفرد أو الذات في معظم القصص في مقاومة أو ضعف من شخصية المجموعة. أعني أنها تتمحور عن الذات، وكلما كان الحديث عن الذات وتفاعلاتها، كانت الخطورة على جودة النص تتزايد.
3- لدي عدد من التفاعلات كالعادة على النصوص داخل الكتاب وهي من تفاعلات القارئ العادية و(شخبطاته) كتعليق على تفصيل أعجبني مثلا، أو علامة على تنبؤ بحدوث وباء في إحدى قصصه بكلمة (واو)، أو محاولة لمعرفة من هو الراوي في قصة (قطاران).. إلخ ذلك.
4- في القصة الأخيرة (الوطواط) عدد من التفاعلات الشخصية الداخلية وعلى الورق أيضا. ومنها أن الكاتب يهتم بشخصية الوطواط وأحداث قصته كما أعرف من متابعتي له. وأن القصة المكتوبة نفسها شعرت بأجواء من الأفلام المشتقة من عالم الرجل الوطواط. لكنه أحضرها هنا في عوالم الشارع المصري بتفاصيله خاصة جزئية المدينة والترام.
- في قصته الأولى (الفراشات) قال:
كان يحدث الآخرين عنها طوال النهار لكنهم لم يعيروا حديثه اهتماما كبيرا.
وفي قصته الأخيرة (الوطواط) قال:
لكنني أعرف شيئًا عن العدالة الحقيقية، عدالة أن يشعر هؤلاء الشياطين بشيء من الخوف. أعرف أنهم سيبحثون عني لكن هذا هو بالضبط ما أريد. فليبحث من يشاء عن ذلك الراكب الأسطوري الذي يرتدي المعطف الأسود الطويل بغطاء الرأس الذي يخفي عينيه ونصف وجهه.
خُيل لي أنها الحكايات ببداياتها الرقيقة الجميلة تنتظرنا في الأحلام، لكننا في النهاية يجب أن نستيقظ، ونواجه هذا العالم بكل شياطينه. وبشكل ما – وياللعجب تمثل تلك البداية وتلك النهاية صورة مصغرة مبسطة للحال منذ 2008 إلى 2012/2013 تقريبا!
فنحن كل ليلة نهرب إلى حكاية من حكايات ما بعد النوم في انتظار الرجل الوطواط!
البيت – 1 صفر 1444 هجريا.
28 أغسطس 2022
09:30 ليلا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الجمال في كل شيء.

 "الليل الليل، ودقة الساعات تصحي الليل" أدندن بالصفير مقلدا اللحن لمقطع من فات الميعاد، ثم أدير القائمة بشكل عشوائي فيأتي المقطع نفسه الذي أقلد من بين مقاطع عديدة. ربما ذلك فيما قبل كان ليكون مطلع نداء وحداء، أو ليلة نكتب فيها ألف كلمة وكلمة ثم لانكون قد قلنا مما يجول بصدورنا إلا كلمة.. فمن للألف يجلبها؟! هل تجلبها قصيدتكِ المحبوسة بصدرك وبصندوق بريدي؟ أم تأوهات كل الأهل بين القصف والحتف؟ تقول السيدة الآن: وهات لي قلب، لا داب ولاحب، ولا انجرح ولا شاف حرمان.  كان لهذا المعنى أثر فيما مضى، ولا أعني منذ سنوات عديدة او أشهر مديدة. بل لعله الأمس أو قبل الأمس بعام أو شهيق إثر قافية نسيب: فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا ** ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ أو زفير إثر قول الشاعر: أين الأحبة يا أبي أو ما دروا ** أنا إلى ساح الفناء نقاد كل الكلمات كان لها معنى، أو لنقل حالة جاهزة من التأثر. فقط هناك مايشبه مستقبلات الكلام فتوجه كل كلمة إلى مستودعها من المشاعر، فما الذي جرى؟! لا، لم آت هنا الآن لكي أشكي هما، أو أنشج. إنما لأحاول التشريح قدرالإمكان عما كان، وعما هو الآن فلعلي ...

ميراث الصمت والملكوت

 قرأت للكاتب منذ سنوات مقالة "بئس هذا الناس" وهي من النصوص القليلة التي ظلت بالذهن لفترات طويلة، ثم سمعت عنه كثيرا فيما بعد، وعن قلة ماينشره رغم مايبدو من براعة نصه، ووجود مايمكنه قوله. وهذا أشد ما يجذبني في كاتب. الكتاب جميل، ورغم أني لست بنفس الانبهار القديم عند قراءة المقالة مرة أخرى، إلا أني أمام قارئ من العيار الثقيل. وهذا أكثر ما قد يعبجني في أحد. لدي حلم واحد فقط في الحقيقة، وكثيرا ما أقول من أين أبدأ به؟ ووجدت مثيلا لهذا الحلم بالكتاب، كما أن من الجمل المميزة التي علقت بذهني من الكتاب هي: أول خطوات تنفيذ الحلم هو أن تستيقظ منه. ومن المفارقات اللطيفة أن الكاتب تعرض لفكرة المفارقات هذه بإحدى المقالات. قرأت الكتاب باتفاق مع بعض الأصدقاء كقراءة جماعية، لكني  جائع للقراءة، وللهروب من واقع حياتي الحالي. سأسألهم عن الرأي طبعا، لكن لا أظن الكاتب ترك مجالا لهكذا فكرة. فهو طارح لأفكار وخواطر عديدة، تحير من يريد أن يحلل. سأتجه لمتابعة إنتاجه إن شاء الله. وإلى رحلة أخرى.
أود أكثر من أي وقت مضى أن أقول أشياء كثيرة. ربما لاتعني أي شيء على الإطلاق لغيري، لكن الرغبات لا تحاكم ولا تصادر. مثلا أود الآن أن أخبر العالم بأسره أني أحبُ الليلَ ولا أحب الأرق. وأرغب بالخلود ولا أحب الناس ولا التقدم في السن. ربما أيضا أهمس في أذن المليارات بأنني أقنع بالقليل، قد أتصور أنه ثمة أذن كبيرة بحجم جزيرة أتحدث عبرها مرة واحدة وحسب. هذا يبدو سهلا حقا. إنه يشبه أن تكن أحد هؤلاء الذين يظنون أن بإمكانهم التحدث إلى أي أحد بأي وقت.. حتى أنه يخيل إلى البعض منهم أنه إله. لا يهم.. ملحوظة: من الأفضل ياصديقي الساهر اختيارا أو مرغما أن تعيد قراءة كلماتي مرة أخرى بسرعة كتابتها.. كأنك من تكتبها فتقرأها على مهل، ثم تضع حالتك الشعورية مع الكلمات، فيساعدك همسك وشهيقك وزفيرك، وعندئذ نكون قد اشتركنا في شيء لا أحد يدري متى بالضبط سيحدث هذا الأمر ثانية! هيا، اذهب ثم عد.. لما لم تفعل؟ هيا، لن يطير بقية كلامي، ثم إنه كلام عادي جدا على أية حال.. لدي رغبة جديد الآن.. وهي أن أسبح مع ذئبي المشتهى بين الكواكب، ثم نستقر على كوكب مناسب به احتياجاته منفصلة عن احتياجاتي حتى لانضطر إلى ممارسة نظريات الأرض ...