مدفوعًا بالرغبةِ في الحلمِ أو القرب كان يفقد توازنه وصمته. كان يود أن يرى صورته في بريق أعينها حين تبتسم أو تلك اللمسة على يده بعدما أنهت عزفًا منفردًا لمدة خمس دقائق على بيانو قديم في ركن قاعة بها زخارف ونقوش على كثرتها لاتساوي شيئًا بما شكله الفرح يومًا من طرق داخله حينما قالت له بشكل مفاجئ: أنت سبب جيد للإستيقاظ كل صباح.
لم يكن يعلم ما هي الخطوة التالية أبدًا. فلم يقترب ولم يبتعد. فقط يفقد صمته، ثم يكتشف أنه كان يهذي بكلام غير مسموع.
****
لا أحد يعرف الحقيقة كاملة وراء تردده. كانوا كما جوقة يرددون نفس الكلام وبالطبع بعضهم لا يفهم المعنى. كان يشعر بالموت يقترب رويدًا رويدًا. وعندما قيل له ذات ليلة: لما تكثر من ذكره؟
حاول جاهدًا أن يخبرهم أنه كما أن الحياة تنطق من كل شيء حوله إلا أن الرحيل موت والغياب موت، وأنه ربما ظننا أن أحدهم سيغيب قليلًا ثم يرجع، فيموت.
في المرة الأخيرة التي أخبرهم بهذا الكلام عاد بعدها سريعًا دون أن يردد نفس الكلام.
شعر أنه قد نسي شيئًا ما، وعندما تذكره خشي من رد فعل محتملة تصيبه مرة أخرى بخيبة، فقرر الرحيل للأبد بلا مزيد من الخيبات.
****
منذ ساعة وبعض دقائق وقليل من جنون كنتُ طيارًا، فأعلنت للركاب الآتي:
مرحبًا بالجميع، لعل بعضكم يحلم بتلك اللحظة التي سنرتفع فيها ثم يلامس السحاب أو يجاري الطير. أحلام طيبة يا سادة. لكني أحذركم من فرط الأحلام، فأنا ذات مرة حلمتُ بالحرية وبأن أصير فنانًا وكاتبًا وأن تكن لي غرفة مكتبية خاصة أحتفظ فيها بالأقلام التي تُهدى إلي من دور النشر ومن الجميلات في حفلات التوقيع، ولا ضير أيضًا من خطابات من نوعية: تسلم باليد للمرسل إليه. وفكرت أنني أيضًا ربما أضع فيها وصيتي، تحديدًا في صندوق قديم يعود لعائلة ملكية تهديه إلي امرأة غريبة جميلة، وتكون قد تركت به ورقة لن أخبركم عما فيها، لأن الأمر ليس من شأنكم، كما أنه مجرد حلم. كل ما لكم عندي هو الآتي: أنا لم أحلم يومًا بأن أصير طيارًا، لذا: هل كتب أحدكم وصيته؟
****
كان قد قال لهم بوضوح: لا تراهنوا عليّ. أنا فقط أسعى لتحقيق مقدار من السلامة لنفسي، وربما أكتفي به دون أي شيء.
كانوا بشكل ما يعتقدون انهم يعرفونه أكثر مما يعرف نفسه.
قال بوضح أكثر: اسمعوا؛ أعرف أنكم تفسرون الأمر بغرابة فلا أحد يخبر عن نفسه صفةً تعارف الناس على عدم صحتها إلا وكان غريبًا. طيب، أنا موافق أن تنعتوني بالغريب والعجيب وأي شيء، لكن أنا هذا من أخبركم عنه.
أنا لا أهتم، يقولون: بل أنت تخفي ما تبدي، والله أعلم.
الله أعلم، فمن أنتم؟ يقولون: الله يؤتي الحكمة من يشاء من عباده.
يرد: طيب انتم الحكماء من أعطاكم الله من علمه، فماذا ترديون من مسكين ينظر إلى الأيام من فوهة الملل، ويتطلع على العالم من شرفة الإنهيار؟
صمموا على ما يعتقدون، وقبيل موته تضايق من طيف سيرته بعد الرحيل، إلا أنه ابتسم بغرابة وكان بيده قلم، فسقط ..
جميل وغريب في آن معا..
ردحذفكل شيء حولنا غريب، أليس كذلك؟
حذفشكرا لوصفه بالجمال.