التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أباطيل وأسمار

 



كيف حال القارئ حينما ينتهي من قراءة كتاب؟
بالنسبة لي تتنوع المشاعر في هذه الليلة بتغير الكتاب أوكاتبه. فمن الكتب ما لاتريده أن ينتهي، ومنها ما يفتح لك المنافذ والأبواب إلى كتب أخرى وعوالم أكبر، ومنها ما يجعلك تلفظ أنفاسَ من انتهى أخيرًا من شيء ثقيل عليه، ومنها ما يجعلك تقف مع نفسك وتراجعها وتضع قدمك مرة أخرى على الطريق التي اخترتها يومًا ثم انحرفت.
"أباطيل وأسمار" من هذه الكتب. كما كانت "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" للأستاذ رحمه الله منها.
فإني وبعد فترة طويلة كنت أتردد فيها على الكتب بغرض الاطلاع والمعرفة وحسب دون بوصلة أو هدف محدد غير هذا الهدف " الاطلاع وحسب، والاستمتاع وحسب" وكنتُ فوق ذلك أضع هذا الهدف في مكانة عالية وأزينه إما بجملة تجعله كأنه يخرج من مشكاة الحكمة، أو بنبرة الواثق أن هذا هو الهدف ولا هدف غيره، أو على الأقل هذا أحد الأهداف العظيمة من القراءة والاطلاع. وربما هو كذلك بالفعل، لكني لم أعد أرى الأمر من هذه الناحية، وليس ذلك بعد أو أثناء قراءة الكتاب، بل قبله بقليل.
أنا قارئ من أبناء الأزهر، درستُ فيه وأحببتُ اللغة العربية وديني وكل ما يتعلق بهما. ولم أكن أرى نفسي منذ صغري في أي شأن واضح إلا هذا الأمر أي: صحبة اللغة العربية والقراءة في أبوابها، وحب ديني. وتمضي الأيام وتتبدل الأحوال وتتغير الأمور والبلاد والعباد، وكل ما كنتُ أراني فيه حينئذ ليس موجودًا الآن إلا قليلا من قليل، حتى هذا الأمر الأحب!! أوشك أن يفر مني.. أو إن شئت الدقة: أوشكتُ أنا أقع وأن أزل بعيدًا عنه.
عمدتُ مؤخرًا لترتيب حالي وشأني الشخصي ومنه بالطبع حالي مع القراءة ومن ثم ترتيب كتبي، فكان الكتاب من أوائل ما وقع عليه اختياري. إذ أن وجهتي الجديدة معاودة القراءة فيما كتب باللغة العربية بشكل أكثر مما أقرأها مترجما، وبشكل أخص ما كتب تحت باب آداب العرب القديمة وماسار على نهجها ومنافحًا عنها.
متى اشتريت هذا الكتاب؟
لا أذكر بالتحديد، لكنه  في فترة ما بين عامي 2012 و 2014. وتحديدا من مكتبة الصحابة بميدان الحصري بمدينة السادس من أكتوبر، وحينها راسلت صديق لي كان أحد منافذي على الأدب لأسأله عن الكتاب، فقال: اشتريه فورًا! وقد كان.
لكنه ظل حبيسًا الأرفف طوال هذه المدة. ولا أدري هل هذا من الخير أم من الشر؟
فلو أني قرأته حينئذ لم يكن يتبين لي كل ما أراه الآن واضحًا وأفهمه على وجهه الصحيح المراد له، فضلا عن مجاراة الأستاذ في بيانه فلم أكن لأفهم كل ألفاظه ولربما أردت وجود معجم ما معي. لذا ومن هذا المنطلق أُصَبِر نفسي وأواسيها على ذلك التأخير كله إن هي سألتني: ترى ما الذي فاتك يا مسكين؟

ربما لا أجيد الحديث عن الكتب وما تحويه. نعم. ليس هذا من محاسني وربما ليس من مذهبي. إنما أجيد الحديث عن حالي مع الكتاب. ولعلي في ذلك أسير كما سار الأستاذ في المقالات – وكان الكتاب في الأصل مقالات جمعها لاحقًا في كتاب- أراد شيئًا ثم وجد نفسه انصرف إلى غيره –وكل حسنٌ- فأنا وإن أردت الحديث عن الكتاب وما قاله الأستاذ وماتناوله ومن تناولهم وواجههم وأنزلهم منازلهم فوجدتني أسير في اتجاه آخر. وربما هذا أفضل، لأني مهما أقول لن يزيد قولي وإن كثرت كلماته وتعددت ألفاظه عن قول أحدهم: هذا كتاب هام. أو ما أجمل هذا الكتاب.

لكن سأقول شيئًا من ضمن ما أعجبني في الكتاب جدًا –وكل الكتاب أعجبني- هو تناول الأستاذ فيما كتب لتحليل النصوص وتاريخها والكلمات وطريقة عرضه لها والوقوف على معنى كل لفظ ودلالته.. وهذا في أكثر من موطن بالكتاب، كحديثه عن ألفاظ "الخطيئة" و "الفداء" و "الصلب" و "الخلاص" مثلا.. وكذا آخر فصوله في الحديث عن اللغة الكلمة والبيان وأمانة الكتابة. خصصت هذه الأمور لأني أحب هذا الباب وأحب أن أقرأ فيه لمن أحب.

من جميل ما لاحظته وأنا أقرأ أني كلما تعرضت لاستفسار داخلي وجدتُ الأستاذ يطرحه ويشرحه ويجيب عن كل ما بداخلي وزيادة، فرحمه الله رحمة واسعة. حتى أني كلما تلذذتُ ببعض حديثه الشديد تجاه من يواجههم وبدى الأمر لي طريفًا بشكل ما فإذا بجملة له أظنها من رسالة في الطريق إلى ثقافتنا تظهر لي فجأة يقول فيها: "اعلم أن الأمر جِدٌّ كله، فإن داخلهُ الهزل، خرجتَ منه صِفْرَ اليدين" فأعاود الجد وأترك الهزل.

 

ماذا بقي لدي لأقول أيضًا؟
آه، تذكرت! كان من عجيب الأحداث أني بدأت عزلة تدريجية لأنه قد شق علي ما سبق من عزلة تلو واحدة. كنتُ أقبل مرة واحدة فأجدني وحيدًا بهم عظيم! فقلتُ لم لا أدع الأمر بخطى بسيطة حتى أقف على ما أريد؟ وقررت التجربة. ليس هنا المجال لذكر تفاصيل ما قررته لكن منه أولًا التوقف عن مسار الكتابة على شبكات التواصل الاجتماعي بالشكل السابق مؤقتًا للوقوف على بعض الأمور وتقييمها بعد فترة. وبالفعل بدأت، وآخر ماكتبته أو لنقل: بيان إعلان العزلة، كان مع بداية القراءة هنا، فوجدت أن أستاذنا كان قد بدأ بكتابة هذه المقالات بعد عزلة طويلة جدًا! لا أعلم أي إشارة هنا على التقاطها، وأي رسالة من الواجب علي البحث عنها وفك شفراتها ورموزها، لكني أؤمن أن كل شيء يحدث بسبب، ولسبب.

لم يعد لدي إلا توجيه من لم يقرأ الكتاب للبدء فيه ففيه من النفع الكثير لمن يبحث عنه.

ورحمة الله على آل شاكر جميعًا.

ليلة الأربعاء 18 جمادى الأولى 1443
22 ديسمبر 2021

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الجمال في كل شيء.

 "الليل الليل، ودقة الساعات تصحي الليل" أدندن بالصفير مقلدا اللحن لمقطع من فات الميعاد، ثم أدير القائمة بشكل عشوائي فيأتي المقطع نفسه الذي أقلد من بين مقاطع عديدة. ربما ذلك فيما قبل كان ليكون مطلع نداء وحداء، أو ليلة نكتب فيها ألف كلمة وكلمة ثم لانكون قد قلنا مما يجول بصدورنا إلا كلمة.. فمن للألف يجلبها؟! هل تجلبها قصيدتكِ المحبوسة بصدرك وبصندوق بريدي؟ أم تأوهات كل الأهل بين القصف والحتف؟ تقول السيدة الآن: وهات لي قلب، لا داب ولاحب، ولا انجرح ولا شاف حرمان.  كان لهذا المعنى أثر فيما مضى، ولا أعني منذ سنوات عديدة او أشهر مديدة. بل لعله الأمس أو قبل الأمس بعام أو شهيق إثر قافية نسيب: فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا ** ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ أو زفير إثر قول الشاعر: أين الأحبة يا أبي أو ما دروا ** أنا إلى ساح الفناء نقاد كل الكلمات كان لها معنى، أو لنقل حالة جاهزة من التأثر. فقط هناك مايشبه مستقبلات الكلام فتوجه كل كلمة إلى مستودعها من المشاعر، فما الذي جرى؟! لا، لم آت هنا الآن لكي أشكي هما، أو أنشج. إنما لأحاول التشريح قدرالإمكان عما كان، وعما هو الآن فلعلي ...

ميراث الصمت والملكوت

 قرأت للكاتب منذ سنوات مقالة "بئس هذا الناس" وهي من النصوص القليلة التي ظلت بالذهن لفترات طويلة، ثم سمعت عنه كثيرا فيما بعد، وعن قلة ماينشره رغم مايبدو من براعة نصه، ووجود مايمكنه قوله. وهذا أشد ما يجذبني في كاتب. الكتاب جميل، ورغم أني لست بنفس الانبهار القديم عند قراءة المقالة مرة أخرى، إلا أني أمام قارئ من العيار الثقيل. وهذا أكثر ما قد يعبجني في أحد. لدي حلم واحد فقط في الحقيقة، وكثيرا ما أقول من أين أبدأ به؟ ووجدت مثيلا لهذا الحلم بالكتاب، كما أن من الجمل المميزة التي علقت بذهني من الكتاب هي: أول خطوات تنفيذ الحلم هو أن تستيقظ منه. ومن المفارقات اللطيفة أن الكاتب تعرض لفكرة المفارقات هذه بإحدى المقالات. قرأت الكتاب باتفاق مع بعض الأصدقاء كقراءة جماعية، لكني  جائع للقراءة، وللهروب من واقع حياتي الحالي. سأسألهم عن الرأي طبعا، لكن لا أظن الكاتب ترك مجالا لهكذا فكرة. فهو طارح لأفكار وخواطر عديدة، تحير من يريد أن يحلل. سأتجه لمتابعة إنتاجه إن شاء الله. وإلى رحلة أخرى.
أود أكثر من أي وقت مضى أن أقول أشياء كثيرة. ربما لاتعني أي شيء على الإطلاق لغيري، لكن الرغبات لا تحاكم ولا تصادر. مثلا أود الآن أن أخبر العالم بأسره أني أحبُ الليلَ ولا أحب الأرق. وأرغب بالخلود ولا أحب الناس ولا التقدم في السن. ربما أيضا أهمس في أذن المليارات بأنني أقنع بالقليل، قد أتصور أنه ثمة أذن كبيرة بحجم جزيرة أتحدث عبرها مرة واحدة وحسب. هذا يبدو سهلا حقا. إنه يشبه أن تكن أحد هؤلاء الذين يظنون أن بإمكانهم التحدث إلى أي أحد بأي وقت.. حتى أنه يخيل إلى البعض منهم أنه إله. لا يهم.. ملحوظة: من الأفضل ياصديقي الساهر اختيارا أو مرغما أن تعيد قراءة كلماتي مرة أخرى بسرعة كتابتها.. كأنك من تكتبها فتقرأها على مهل، ثم تضع حالتك الشعورية مع الكلمات، فيساعدك همسك وشهيقك وزفيرك، وعندئذ نكون قد اشتركنا في شيء لا أحد يدري متى بالضبط سيحدث هذا الأمر ثانية! هيا، اذهب ثم عد.. لما لم تفعل؟ هيا، لن يطير بقية كلامي، ثم إنه كلام عادي جدا على أية حال.. لدي رغبة جديد الآن.. وهي أن أسبح مع ذئبي المشتهى بين الكواكب، ثم نستقر على كوكب مناسب به احتياجاته منفصلة عن احتياجاتي حتى لانضطر إلى ممارسة نظريات الأرض ...